سعداوي اماني تكتب :" يا أماه".
عنوان القصة : " يا أماه "
بقلم ؛ سعداوي اماني.
" إن المرض احتلني ، السكري ، ضغط الدم و حتى المفاصل ، لم أعد قادرة على المشي كالسابق و بالكاد آكل لقمتين و أتوقف . قالت الطبيبة أني لو تابعت شرب الدواء سأتحسن إلى الأفضل ، لكنها لا تعلم أن المرض ليس بجسدي ، بل هو بقلبي منذ أن تركتموني في هذا المكان و لم أسمع أي خبر بعدها .. ولو حتى عن أحدكم"..
هذه الجدة غاردينيا تبلغ من العمر 65 سنة ، آتى بها أولادها إلى هذه الدار منذ أكثر من سبع سنوات و لم يزرها أحد منذ ذلك اليوم . تناديني أحيانا بأسماء بناتها ، و أحيانا تقول لي " لأن أمنياتي كلها هي ذهابك مرارا لأبنائي برسالة مني فسأناديك ب "أمانيِّ " ( تقصد بها مجموعة أمنياتها ) . كان من الصعب عليها أن تتقبل فكرة تخلي أولادها عنها ، و رغم أنها تجد صعوبة في كتابة كل ذلك لكنها بقيت ترسل لهم رسالة آخر الأسبوع لتخبرهم عن حالها و ترجو قدومهم ، لكن ما كان يحدث حين تصلهم الرسالة مؤلم جدا ..
كان للجدة نصيب بثلاث بنات و أربع ذكور ، و استطعت الوصول لجميعهم إلا ابنها الأكبر لم التقي به حتى الآن ..
أتذكر ذاك اليوم جيدا و كيف لي أن أنساه . استيقظت تلك المنسية صباحا كعادتها و كلها شرود ، حزن و تفكير ، لم تود تناول فطورها و كانت تصرفاتها غريبة نوعا ما .. بعد ساعة من الوقت تسلل صوتها العذب لمسمعي و هي تقول أمانيّ بصوت مرتجف . عند حضوري إليها سلمتني رسالة أخذت منها دموعها مكانا لتقطن عليه و قالت إنها أمانة .
حملتها بكل ما في من كسر و اتجهت كالعادة لبيت أحد أولادها . ففتح لي الباب ، كنت أتوقع أن أطرد كالعادة و تقطع الرسالة أمامي من طرفهم و هم يرددون لا حاجة لنا بها ، لكن فتح لي شخص غريب كانت عيناه توحي بأشياء كثيرة أولها الهدوء .
" من أنت ! هل ابن الجدة غاردينيا هنا ... "
لم أكمل كلامي حتى فتح الباب بقوة من طرف أبناء الجدة جميعهم و احتلت الغرابة وجوههم فور رأيتهم لي.
" آه كلكم هنا جيد .. أحضرت لكم رسالة من والدتكم المنسية كالعادة ، لكن هذه المرة ليست كقبل هناك شيء ما غير طبيعي أتمنى أن تتداركوا خطاياكم قبل فوات الأوان ."
وقف الجميع في ذهول مما جعلني أسألهم عدة مرات لما لم تقطعوا الرسالة !! .
نظر لي ذاك الذي فتح الباب أولهم بنظرة ثاقبة ، بعينان تملؤها الدموع موجها الكلام للبقية :
" ألم تخبروني بأن أمي توفيت .. ماذا تقول هذه ! ماذا تعني بوالدتكم المنسية ! فليتكلم أحدكم ".
كان شعور الخيبة واضح على وجهه ، لم يفهم شيء أو بالأحرى فهم لكن كان يود الهروب من الحقيقة.
يا سيدي أنا أعتني بالجدة غاردينيا منذ أكثر من سبع سنوات رموها في تلك الدار و لم يتفقدها أحد ، وصلت لهم جميعا الا ابنها الأكبر ، كانت دائما ما تنادي بإسمه قائلة وراءه " يا كبدي " و تود رؤيته لكن للأسف لم أستطع الوصول إليه و هم قالوا أنهم لا يعرفون أي معلومة عنه ."
هنا لم يستطع إمساك تلك الدموع .. سقطت تاركة وراءها صمت ، تبعثر للكلمات و صدمة له ثم نطق و أخيرا بحروف و كلمات متقطعة " أنا .. أب .. ابنها .. أنا ابنها الأكبر ."
و ما أوجعه من كسر أجل هذا ابنها الأكبر أتته منحة من عمله كطبيب منذ تسع سنوات و بضعة أشهر لخارج البلد و إصرار أمه على الذهاب دفعه لذلك ، قيل له أن أمه توفيت ظنا منهم أنه تزوج هناك و لن يعود ، كان أشدهم حبا لأمه و العكس أيضا ، لذا كذبوا عليه كي يبعدوه عن فكرة العودة للديار مجددا .
لملم حطام قلبه و ذهب معي إليها بحريق داخله ، لكنه حين وصل ، لم يجدها هي بل وجد بين يديها كلمات بات قولها له مجددا مستحيلا .
" إن أبنائي أنكروا وجودي نسوا تعبي و شقائي حبي و عنائي .. مهما تقسى قلوبهم جميعا أعلم أن قلبك لن يقسى ، أيقن انك ستزورني ، ستأتي إلي ، ستلامس يداك يداي ، ستقبل جبيني و تقول يا أماه لقد عدت . أجل يا ابني الأكبر و يا حبي الأول سامحني لأني أخفيت عنك الحقيقة . إن أولادي الذين هم من صلبي رموني بكل ما عندهم من قوة لكن كنت على يقين أن ابني الذي تبنيته سيأتي لي يوما . سامحني يا كبدي كنت قد تبنيتك أولهم ظنا مني و من الأطباء أنني لن أنجب أبدا لمرض في عمودي الفقري لكن كتب و رزقت بمن تجاهلوا وجودي ولم يتذكروه أساسا . أحبك يا بني بقلبي ألف مرة ، ولو كان لي ألف قلب لأحببتك أضعافا . لا تنسى زيارتي . والدتك أو كما تناديها .. جميلتك "
فقد توازنه واقعا أرضا على ركبتيه اقترب إليها مقبلا رأسها قائلا:
" لقد عدت يا أماه "
_ انتهت _
شكرا لكم و بوركتم خيرا اضعافا 🌼🌸💜💜💜
ردحذف